قبيل مقتله، ربما كان قاسم سليماني على وشك تحقيق هدف سعى جاهداً لتحقيقه قبل ذلك، ألا وهو سحب كل الجنود الأميركيين من العراق. ويوم الأحد الماضي، أعلن البرلمان العراقي أن الولايات المتحدة انتهكت سيادة البلاد عندما اغتالت الجنرال صاحب النفوذ على عدد من القوى العراقية بطائرة مسيرة في بغداد، وصوّت أعضاؤه بالإجماع لصالح إجلاء الـ5500 جندي أميركي هناك، وذلك في غياب ممثلي العرب السنّة والأكراد.
الوجود العسكري الأميركي كان محورياً في قيادة ائتلاف لدول غربية في العراق وسوريا لمحاربة تنظيم «داعش»، وفي إعادة بناء وتدريب القوات العراقية لخوض تلك المعركة. ويقول محللون إن هذين الهدفين الأميركيين الاستراتيجيين باتا اليوم في خطر عقب مقتل سليماني، الذي شهدت جنازته منذ لحظة انطلاقها من العراق تعهدات كثيرة بـ«الانتقام».
ويقول مسؤول عراقي، طلب عدم الكشف عن اسمه، «إن مقتل سليماني، كيفما نظرت إليه، وأياً يكن رأيك في الرجل، سيجعل بقاء الجنود الأميركيين في بلدنا مستحيلا». ويضيف: «إنه انتهاك للسيادة أن تجعل تلك الطائرات المسيرة المسلحة تحلق بدون إذن من الحكومة العراقية وتنفذ ضربة قاتلة داخل بلدنا على مسؤول أجنبي»، مضيفاً: «إنه تجاوز أميركي.. إنه تخط لحدود الائتلاف».
وزير الدفاع الأميركي مارك إيسبر نفى في وقت متأخر من يوم الاثنين أن تكون بلاده قد قررت سحب جنودها، رغم تسريب رسالة غير موقعة من القائد الأميركي الأعلى في العراق تخبر بغداد بتحرك القوات في «الأيام والأسابيع المقبلة استعداداً للتحرك». وكتب جنرال البحرية الأميركة ويليام سيلي يقول: «نحترم قراركم السيادي توجيه الأمر برحيلنا». لكن البنتاجون وصف الرسالة بالمسودة و«الخطأ». وقبلها بأيام، كان الجنود الأميركيون قد علّقوا المعركة ضد «داعش» من أجل تحصين مواقعهم تحسباً لخطر هجوم من ميليشيات «الحشد الشعبي».
والواقع أن مجرد إمكانية انسحاب أميركي مفاجئ من العراق –ليس وفق شروط واشنطن، وإنما نتيجة ضغط الزعماء العراقيين– ينظر إليه البعض باعتباره «نصراً» لخصوم الولايات المتحدة. فهذه الأخيرة استثمرت تريليون دولار ونحو 4500 من الأرواح الأميركية من أجل إنشاء معقل ديمقراطي وموال لأميركا في الشرق الأوسط.
والحق أن تلك التطلعات تبخرت منذ مدة طويلة، بعد أن قوبلت سنوات من الجهود الأميركية الخاطئة وغير الموفقة في العراق باضطرابات وأعمال تمرد عنيفة، مما أدى إلى مقتل مئات الآلاف من العراقيين. وكانت دراسة للجيش الأميركي حول حرب العراق نشرت في 2018 (تقع في مجلدين من 1300 صفحة)، قد وجدت أن «خصوم الولايات المتحدة التوسعيين والأكثر جرأة يبدو أنهم الفائزون وحدهم».
مقتل سليماني أخذ يؤدي الآن إلى إعادة تقييم جوهرية للوجود العسكري في العراق وأماكن أخرى يقول محللون إنها ستُضعف المعركة ضد «داعش» الذي أخذ ينبعث من جديد، وستترك العراق وقواته الأمنية في وضع هش على نحو متزايد أمام ضغط وكلاء القوى الإقليمية.
وفي هذا الصدد، يقول البروفيسور توبي دودج، الخبير في الشؤون العراقية بكلية لندن للعلوم الاقتصادية: «إن تركة سليماني تتمثل في أن المخطط الكبير لمهاجمة القواعد الأميركية يقوم على استدراج الأميركيين للقيام برد عسكري مبالغ فيه، ولم يكن أحد يعرف إلى أي مدى سيكون مبالغاً فيه». ويضيف البروفيسور دودج، الذي يزور العراق عدة مرات في السنة، قائلا: «إن هذا انتصار كبير لخصوم واشنطن، ويعني أن المسؤولين الموالين لها في العراق سيضطرون الآن للاختباء لأنهم لا يستطيعون التواصل مع الغرب وتشكيل تحالف جديد». وأضاف قائلا: «إذا نظرت إلى حلفاء الولايات المتحدة المحوريين داخل المنظومة الأمنية، فستجد أن الجنود الأميركيين العائدين سيتركونهم منكشفين بشكل كبير وبدون معنويات مرتفعة وبدون أمل في أن الأمور ستتحسن».
ثم سرعان ما استُبدلت المشاعر المناوئة للنفوذ الإقليمي، والتي تصاعدت خلال أشهر من الاحتجاجات المناوئة للحكومة في بغداد، ما أدى إلى هجمات على قنصليات وتجمعات طائفية دينية في المدن الشيعية عبر الجنوب، وحلت محلها مشاعر معاداة الولايات المتحدة.
رد الفعل القوي المناوئ للولايات المتحدة بدأ بعد ضربة صاروخية في 29 ديسمبر على ميليشيا «كتائب حزب الله» المدعومة من الخارج، قتلت 25 شخصاً. وبدورهم، هاجم أعضاؤها السفارة الأميركية في بغداد، حيث اخترقوا جدرانها الخارجية وأحرقوها.
تداعيات إرغام القوات الأميركية على الرحيل ستكون كبيرة بالنسبة للعراق، فالانسحاب الأميركي الأول في 2011 –بعد غزو 2003 الذي خلع صدام حسين ومحاولات إعادة بناء الدولة والمؤسسات العسكرية- أفضى إلى مشهد سياسي طائفي موال للشيعة بشكل كبير. وهذا الأخير عبّد الطريق في 2014 لهجوم «داعش».
الجنرال سليماني ينسب له أنصاره من العراقيين الفضل في التدخل بسرعة لإنقاذ بغداد من «داعش» عبر توفير الموارد والمستشارين، وعبر تعبئة شعبية تحولت لاحقاً إلى المليشيات الشيعية النافذة المدعومة من «فيلق القدس». لكن الجهد المنظم الذي تقوده الولايات المتحدة لإعادة بناء وتدريب قوات الأمن العراقية، التي تفككت أمام تقدم «داعش»، هو الذي سيكون حاسما بالنسبة لمستقبل العراق. كما كانت القوة الجوية التابعة للولايات المتحدة والائتلاف الدولي محورية في دحر «داعش».
ويقول المسؤول العراقي: «لقد رأينا خلال الحرب على (داعش) مدى فعالية التدريب الذي وفره الائتلاف، وكيف أن الجنود الأكثر نجاحاً في المعركة كانوا أولئك الذين تلقوا التدريب على أيدي الائتلاف»، مضيفاً: «أن تخسر ذاك الدعم ليس شيئاً جيداً بالنسبة للعراق. إذ سيضر ذلك بالمؤسسات العسكرية التي نحاول بناءها، والتي ما زالت فتية وبحاجة لعجلات التدريب الصغيرة».
*كاتب وصحافي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»